رئيس مجلس الادارة:

د. محمود مسلم

رئيس التحرير:

مصطفى عمار

رئيس مجلس الإدارة:

د. محمود مسلم

رئيس التحرير:

مصطفى عمار

علاقات و مجتمع

أكرم السعدني يكتب: الحريم.. في الدولة السعدنية

كتب: الوطن -

11:42 ص | الأربعاء 05 ديسمبر 2018

أكرم السعدني

فى ندوة للولد الشقى «السعدنى الكبير» بمعرض الكتاب.. قام أحد الشباب المتيم بـ«السعدنى» وعدّد كتبه كلها وكاد الولد يكون حافظاً لبعض هذه الكتب عن ظهر قلب.

وانشكح «السعدنى» بشدة من حماس هذا الشاب بإنتاجه الأدبى.. ولكن الشاب إياه بعد أن أنهى وصلة من العشق بكتب «السعدنى» قال: يا أستاذ محمود لا يوجد للمرأة أى ذكر فى كل ما أصدرت من كتب.. وقد كان الولد بالفعل محقاً فيما قال.. ولكن «السعدنى» أكد له أن صاحب التأثير الأعظم فى حياته وفى تكوينه هى الحاجة أم محمود التى كانت سليطة اللسان تملك مواهب متعددة ومخزوناً من السخرية استغلته كسلاح فى مواجهة كل سكان حارة سمكة وفى سوق الجيزة الأشهر.. ولم يكن هناك مخلوق يجرؤ على مواجهة الحاجة أم محمود سوى الحاجة نفيسة الخضرية -بائعة الخضار- فهى الوحيدة التى إذا وقعت عينا ستى أم محمود عليها اتجهت إلى أى شارع فرعى اتقاءً للسانها.. أما العنصر الثانى فى التأثير على «السعدنى» من الجنس اللطيف فقد كان لأمى رحمها الله.. كانت سيدة شديدة التنظيم تعشق النظافة ولا تستطيع أن ترى أى مكان حاله مقلوب فكانت دائماً تهندم الأمكنة وتنسقها وتحفظ لبيتنا درجة غير طبيعية من النظافة.. وكان «السعدنى» يعترض على هذه النظافة وذلك النظام قائلاً: إحنا عايشين فى متحف.. وقد كانت حياة «السعدنى» عجيبة ففى الهرجلة واللخبطة والنعكشة نظام لا يعلم أسراره إلا اثنان فقط فى الحياة أولاً أبويا الجميل الولد الشقى «السعدنى الكبير» ثم شخصى الضعيف.. بمعنى أننا وسط هذا اللانظام نستطيع أن نتوصل إلى أوراق بعينها أو أغراض سبق وألقينا عليها كماً هائلاً من الجرائد والكتب والأدوات وأحياناً بقايا المأكولات.. ودائماً ما كان «السعدنى» يسب الأخضرين إذا قام من النوم ليجد أن مكتبه أو مكتبته تم تنظيمها أو تنظيفها وهو يصيح بأعلى صوته.. انتوا نضفتوا!! ساعتها كان البيت كله يتكهرب والكل يجرى من أجل البحث عن أوراق «السعدنى» التى ضاعت بفضل الترتيب.. ولكن «السعدنى» فى قرارة نفسه كان يعلم تمام العلم قيمة أمى فى حياة الأسرة فنحن جميعاً عديمو التنظيم نركن إلى الإهمال وأجمل لحظاتنا هى تلك التى نعيش فيها بعيداً عن أى قيود، ولكن فى لحظات الخطر كان «السعدنى» يسفر عن حقيقة مشاعره تجاه رفيقة مشوار الحياة والعمر عندما سقطت ذات يوم بفعل المغص الكلوى الذى زاد على الحد ولم يعد فى استطاعتها الاحتمال.. وهو المغص الذى كان يداهمها بشكل دورى مرتين كل شهر وكان المنقذ الداهم هو جارنا الدكتور عزت شندى رحمه الله، كان هذا الإنسان شديد الرقى يزورنا إذا ما انتشر أى وباء فى البلد.. أو إذا دخل فصل الشتاء ويقوم بمنحنا التطعيمات اللازمة أنا وأخواتى الأربع ولم يكن الولد الشقى من محبى الحقن.. فقد كان فى مدرسة المعهد العلمى وكانت الكوليرا هى أخطر أسباب حصاد المئات من الناس فى الأربعينات والخمسينات.. وطلبوا من الطلبة أن يصطفوا فى طابور وأمسكوا بالخرزانات والعصى لكى يمنعوا الطلبة من الهرب من عملية التطعيم بالحقنة.. ولكن أول طالب تعرض للحقن سقط ميتاً وأما بقية الطلبة فهات يا فكيك.. انطلقوا كما الحمام الزغاليل فى كل اتجاه.. منذ هذا اليوم كره «السعدنى» الحقنة وكل من يحملها.. المهم أن أمى كان عليها أن تجرى عملية دقيقة من أجل الخلاص من عدد متناهٍ من الحصوات داخل الكلى والحالب، وإلى بلاد الضباب اصطحب «هالة» شقيقتى الكبرى وأمى وخضعت «هالة» لعملية جراحية.. بينما أجرت أمى عملية أخرى فى الكلى.. وأصيبت بعدها بالبولينا.. يومها شعر «السعدنى الكبير» أن أم أولاده ورفيقة دربه الست التى داخت دوخة ينى عندما اعتقلوه فى العام 1958 حيث لا يعرف مكانه أحد.. واختارت أن تنام على الأرض صيفاً وشتاءً حتى عاد من غياهب المعتقلات.. يومها أدرك «السعدنى» أن هذه السيدة تكاد تغرب شمسها عن حياة الأسرة.. وكان «السعدنى» يبكى إلى جوارها -وهو العصى عن الدمع - وهى فى غيبوبة.. يا سبحان الله عادت إلى الحياة لتشهد هذه اللحظة الإنسانية التى تضرع فيها «السعدنى» إلى المولى عز وجل أن يحفظها وأن يشفى «هالة» صغيرته وأول ما رزقه الله واستجاب المولى عز وجل لدعاء «السعدنى» وقامت أمى لتمارس دورها فى الحياة، والسير خلف كل سعدنى وسعدنية فى المنزل لإزالة آثارنا السعدنية المدمرة وتحملت هذه المكافحة المجاهدة هذه الأسرة الداعشية وحاولت أن تضفى على بيتنا شيئاً من النظام والنشاط ولمسات ساحرة من ذوقها الرفيع ولم تهدأ لها حركة ولا بال وواجهت سجن الولد الشقى للمرة الثانية فى رحلة العمر بعد مجىء الرئيس السادات وكان هو الرئيس الوحيد الذى صادقه «السعدنى» وعمل إلى جواره وعرفه من زمان بعيد ولكن «السادات» سجن صديقه القديم لمدة عامين.. فقد أصدر المدعى الاشتراكى الأسبق، مصطفى أبوزيد، حكمه بالسجن 5 سنوات على «السعدنى»، قام «السادات»، رحمه الله، بتخفيف العقوبة لمدة عامين فقط.. يومها عادت أمى لنفس السيناريو القديم فقامت بافتراش الأرض لتنام عامين كاملين على أرضية حجرة نومنا حتى خرج «السعدنى» من سجنه، ولم تكن هذه هى نهاية المأساة، بل لقد ذهبنا فى رحلة إلى المجهول فى المنفى عشر سنوات بالتمام والكمال ذاقت فيها أمى مرارة المأساة وتحملنا جميعاً الطرد من عدة بلدان عربية ولم نعرف استقراراً إلا عندما حط بنا الرحال أرض الرافدين هناك كانت هى وحدها تقاتل من أجل أن نتخطى عقبة الدراسة التى كانت شديدة الصعوبة وفوق ذلك المنزل الذى كان يعتمد فى الصرف على شىء اسمه «الطرنش» حيث لم يكن هناك صرف صحى بعد فى أغلب مناطق بغداد.. كتب لهذه المأساة أن تنتهى فى العام 1982 عندما عدنا إلى مصر لنستقر فى عهد حسنى مبارك، مساه الله بالخير رغم كل شىء..

وحرص «السعدنى» فى أول كتاب تقدمه له «أخبار اليوم» أن يذكر أمى بإهداء الكتاب:

«إلى أم أكرم التى لولاها لتبعثرت حياتى كما تبعثرت أوراقى».

ولكن ومن خلال المتابعة والتدقيق.. حرصت «هالة» و«أمل»، و«هبة»، رحمها الله، وحرصاً على الأخذ بمسيرة الأم، فقد كانت مدرسة فى الحياة سواء فى التربية أو فى صنع الأكل وهو ما شهد به الجميع.. كان العم مصطفى الفقى سكرتيراً ثالثاً فى السفارة المصرية فى لندن.. يدعو لها بالعمر الطويل كلما دعاه «السعدنى» لتناول الملوخية فى لندن، ولكن الغلبة فى السلوك كانت لـ«السعدنى» وعلى الرغم من أن طبيعة البنات تفرض عليهن أن يتمسكن بكل ما هو لدى الوالدة.. كان للطريقة السعدنية المكان الأكبر والتأثير الأخطر.. وكما قال لى عبدالرحمن الخميسى أنت مع «السعدنى» لا تحقق أى رغبة ولكنك تسير خلفه مندهشاً مدهوشاً مسروراً على الدوام.

وقد أكرم «السعدنى» أمى واعترف على الدوام بفضلها فى حفظ هذه الأسرة واحتضاننا جميعاً ورعايتنا بل وتطور الأمر واستمر مع الأحفاد.. فقد فاضت مشاعرها لتشمل الأحفاد وترعاهم وتتولى تربية أبناء هالة «منة وأكرم» وأبناء هبة «محمود ومصطفى ومريم ومحمد» وأولادى «محمود وحسام وسيف» وعندما مرضت هبة.. صبرت أمى على البلاء شأن عباد الله المؤمنين.. ولكن لكل إنسان قدرة على التحمل أياً كانت قوته الجسمانية أو العصبية.. فقد انهارت كل الدفاعات.. وسقط الولد الشقى أولاً.. وبكل ما أوتيت من قوة.. ظلت إلى جواره تجاهد من أجل رعايته فى مرضه حتى توفاه الله وما هى إلا سنوات قليلة وانتقلت الأم الجميلة الطيبة الودودة إلى رحاب ربها وهى تحمل فى نعشها كل أسباب البهجة والمتعة والحنان والتضحية والوفاء، لم تكن تمثل نفسها ولكنها كانت نموذجاً لكل الأمهات اللاتى عرفناهن وارتبطنا بهن.. ومع شديد الأسف هذا الصنف الرائع أرهقته وطأة الحاجة والبحث عن أسباب الحياة الأساسية، المرأة المصرية، ولله الحمد، لا تزال بخير رغم ضغوط الحياة المرعبة.. الأم والأخت والابنة والزوجة هى بالتأكيد أكثر من نصف المجتمع.. كان العم الغالى صلاح دائماً ما يقول لى الستات أقوى مننا ألف مرة.. كفاية حكاية الحمل دى.. لا يمكن لإنسان أن يتخيل رحلة عذاب تمتد لتسعة أشهر وهى تحمل داخلها روحاً وجسداً يتغذى وينمو داخل الرحم ثم يرتبط وجوده بعد ذلك بعملية تربية تستمر ربما حتى موت الأم.

صدق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أكرمهن إلا كريم وما أهانهن إلا لئيم».