استوى في جلسته على أرضية إحدى عربات مترو السيدات، في الساعات الأولى من الصباح، يتلو بعضا مما تيسر من أيات سورة الرحمن، تشدد النساء النظر إليه، غير راغبات في توجيه سؤالهن: "من أين أتى هذا الرجل الوحيد الذي يستقل العربة المخصصة لنا!".
يصمت الرجل السبعيني قليلا، ثم يشرع في تلاوة آية أخرى من السورة نفسها ثم ينتقل إلى غيرها من السور، حتى انتهت رحلته، ووصل إلى محطة شبرا الخيمة حيث منزله المتواضع، إنها رحلة الاسترزاق الصباحية التي يجري وراءها، يوميا، بجانب عمله الآخر.
"هن" التقت "عبدالله" ذلك الرجل الذي خص تلاوته أذن السيدات، ليروي قصته ويجيب على سؤال "من أين أتى هذا الرجل؟!"، موضحا أنه كان يعمل ببنك التسليف والائتمان الزراعي بحمل الجوالات وأكياس النفايات، حتى انتقل إلى أعمال النظافة بإحدى المصانع الخاصة بعد أن تقدم به العمر.
تزوج الرجل، صاحب الـ77 عاما، وأنجب 7 بنات، لم يتلقين من تعليمهن سوى القراءة والكتابة، لكنه اهتم بتزويجهن، ويحكي أن "إحدى بناته توفت وأصبح مسؤولا عن رعاية أولادها ومتكفلا به بجانب زوجته التي أصيبت بإعاقة في القدمين نتيجة تعرضها لحادث سير، قبل عامين، أودى بحركتها، ما جعل العبء عليه مضاعفا لتوفير تكاليف علاجها، غير أن أهلها صرفوا عليها 200 ألف جنيه".
"وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ، فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ".. تلك الآية الأولى التي رددها في هيئته البسيطة، مرتديا عمة بيضاء، وجلابية يصبغ قماشها لون داكن، وحذاء مهترئ، ممسكا كيسا شبكيا لجمع الطعام، ولم يحصل على معاش، قائلا: "أنا واخد عهد ماخدش فلوس من الدولة، الدولة هتدي مين ولا مين، يا رب يكفوا الشباب".
ويقول: "أنا إنسان ميت بفلوس الدولة ومن غيرها"، متابعا أنه لم يشعر بحرج في الحصول على رزقه من السيدات، وفقا لرواية عمر بن الخطاب وعمله بالتجارة في أحد الأسواق حين أبلغه الرسول (صلي الله عليه وسلم) بكرم النساء في الشراء، فضلا عن حديثه: "أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم".
ويتابع: "الله خلق لكل ذكر روح، والروح أمانة، والأمانة أنثى، فهن أكرم خلق الله".
تلك الرواية سمعها قبل 20 عاما، عند إنصاته للإذاعة، متابعا أن الهيئة الإذاعية قلت في بث تلك القصص الإسلامية، موضحا: "حاجات كتير مبقاش يجيبوا سيرتها، وهي من صميم حياتنا".
