رئيس مجلس الادارة:

د. محمود مسلم

رئيس التحرير:

مصطفى عمار

رئيس مجلس الإدارة:

د. محمود مسلم

رئيس التحرير:

مصطفى عمار

علاقات و مجتمع

«إيمان» 11 سنة في ملء أنابيب البدرشين.. والبحث عن ابنها المخطوف: «محدش شافه؟»

كتب: سمر صالح -

03:23 م | الجمعة 12 نوفمبر 2021

السيدة إيمان وصورة رضيعها المفقود

باب خشبي سقط طلاؤه، لم يعد لألواحه سوى لون كالح، تخرج من وراءه في السابعة صباح كل يوم، سيدة أربعينية تشي ملامحها بما تخفيه من حزن عميق، يبدو شكلها أكبر من عمرها بسنوات، منزل لا يسع إلا غرفة واحدة، يخلو من الأثاث إلا سرير واحد، يفترش ساكنيه الأرض، تعوله هي بمفردها، اعتاد أصحاب المحال المجاورة على هيئتها، وهي تحمل «أنبوبة» على ظهرها، تتوجه بها صوب مستودع الأنابيب القريب من منزلها لملئها، صارت مورد رزقها الوحيد، ورفيقة دربها، رغم مشقة حملها على ظهرها العليل.

بداية المعاناة والشقاء

بوجه رسم خطوطه الزمن، وبلهجة فلاحي كانت تتحدث الأم «إيمان عمر» لـ«الوطن»، من أمام منزلها الكائن بمنطقة البدرشين بمحافظة الجيزة، وفي يدها صورة تلازمها أينما ذهبت لطفلها، الذي فقدته بلا رجعة، تسرد سنوات من المعاناة بنبرة صوت تعبر عن سيدة حرمها القدر من الاستمتاع بشبابها، حملت على عاتقها مسؤولية 3 أطفال تفوق طاقتها، عاطفة الأمومة بداخلها كانت أقوى من مشاعر اليأس في أي ترى فقيدها الصغير مرة أخرى، بعد غياب دام 11 عاما.

اختطاف رضيعها منذ 11 عاما

في 14 مارس عام 2009، كانت عقارب الساعة تشير إلى 11 صباحا، الضوضاء تملأ أركان المستشفى، أحادث جانبية بين المرضى لا يتوقف من ضجيجها بكاء الرضيع «مصطفى أحمد عبد اللطيف»، جلست الأم «إيمان» في انتظار دورها في عيادة أمراض النساء بمستشفى قصر العيني، تحتضن رضيعها وتداعبه حتى يهدأ، جاءت لحظة دخولها، فاقترحت عليها إحدى الممرضات أن تحمل عنها رضيعها، إلى حين انتهاء كشفها في عيادة الطبيب، تروى لحظة فقد صغيرها بأنفاس مكتومة: «في ممرضة قالتلي هاتي ابنك خليه معايا، لحد ما تخلصي كشف، خرجت ملقتهاش ولا لقيت ابني»، انتابتها حالة من الصراخ والبكاء، هزت أركان المستشفى، حتى اكتشفت بعد ذلك، أنها ليست ممرضة.

وفاة زوجها حزنا على رضيعهما المخطوف

انقلبت حياة الأم، رأسًا على عقب، لم يتحمل الأب خسارة صغيره، أُصيب بجلطة من إثر الصدمة، وفارق عالمنا بعد الواقعة بعامين فقط، تاركًا لها مسؤولية 3 أبناء صغار، لا وظيفة لها، ولا شهادة عالية تمكنها من العمل، محاولات بحثها عن صغيرها، تأكل من جدار روحها كل ساعة: «عملت بلاغ في القسم وقعدت 3 سنين أدور عليه»، تذهب تارة إلى المشرحة للتعرف على جثث أطفال صغار، وفي كل مرة يرتجف جسدها خوفا، من أن ترى صغيرها بينهم، وإلى أقسام الشرطة تارة أخرى، للتعرف عليه من بين المشردين بالشوارع، لكن دون جدوى.

سنوات من البحث والاستغلال 

3 سنوات مرت في بحث الأم عن رضيعها، اتخذت خلالها قرارا بالعمل لملئ بطون أطفالها الثلاثة، لم تجد مهنة سوى ملء أسطوانات البوتاجاز الصغيرة، لسيدات منطقة البدرشين، التي تسكنها، لتكسب قوت يومها بعد غياب زوجها عنها، ورغم صعوبة المهنة، إلا أنها لم تكن شفيعا لها، من استغلال البعض لها، كونها «ست»، بحسب وصفها.

ملئ أنابيب البوتاجاز لأهل البدرشين

مبكرا وقبل أن يستيقظ صغارها، تغادر «إيمان»، أو كما يلقبها أهالي المنطقة بـ«أم محمد»، إلى مستودع الأنابيب، «تلفح» الأنبوبة على ظهرها، لتحجز دورها بين أوائل المصطفين في طابور ممتد على مرمى البصر، انحراف يكاد لا يُرى في طريقة السير، يفضح الهدوء المُدعي للسيدة التي أحكمت قبضتها على أسطوانة الغاز، وما إن تنجح في الوصول لهدفها، تعود إلى منزلها تفترش الأرض جلوسا أمام مدخله، وإلى جوارها الأنبوبة المملوءة بالغاز المضغوط، تنجذب إليها سيدات الحارة، يأتون إليها من كل جانب لملئ البوتاجازات الصغيرة، أو«الباجور» الذي تشتهر بها تلك المنطقة الريفية، لاستخدامه في أغراض الطهي والخبيز.

صورة الرضيع لا تزال في جيبها

بالكاد تسد الأم، احتياجات أبنائها كل يوم، مرت السنون سريعا وتزوجوا، واستمرت هي على هيئتها المعهودة، اصفرت صورة رضيعها المفقود، من بصمات أصابعها، تضعها في محفظة بالية، تكاد تخلو من النقود إلا جنيهات معدودة، كلما مر عليها أحد تسأله: «مشوفتش ابني؟ كان في وحمة في رجله»، لتجد في أعين الجميع نظرات شفقة ومواساة، لا تضمد الجرح الغائر في قلبها.

وهنت «إيمان» وابيضت عينيها من الحزن على صغيرها، كلما أرادت أن تستريح من عناء المهنة ومشقة حمل «الأنبوبة»، تراودها صورة غيرها، لم يعد في العمر أكثر من الذي مر، تريد أن تهدأ قليلا: «نفسي في كشك أبيع منه، وأجيب لقمتي، عشان تعبت من شيل الأنابيب»، وتناشد الجميع بقلب أم مفطور: «كل يوم بحلم إن حد يخبط على بابي ويقولي لقيت إبنك».