رئيس مجلس الادارة:

د. محمود مسلم

رئيس التحرير:

مصطفى عمار

رئيس مجلس الإدارة:

د. محمود مسلم

رئيس التحرير:

مصطفى عمار

علاقات و مجتمع

منال عزام تكتب: جعلوني متزوجا.. ليه يا زمان مسبتناش أبريا

كتب: منال عزام -

11:54 ص | الخميس 01 أبريل 2021

منال عزام

حينما تزوجت كنت أسير على أطراف أصابعي إذا أردت الخروج من المنزل لأنني كنت أتعرض لموشح يومي أسمعه من زوجي إذا رأني متلبسه بجريمة الخروج وأنا أرتدي ملابس عادية جدا.. مجرد «بلوزة وبنطلون» لأجده يلف ويدور من حولي وكأنه يعاين بضاعه خارجه لتوها من المخازن وبعين الخبير يرمقني كما لو كنت خارجه عن القانون.

ونظرات الاستهجان تحاصرني من كل جانب فأرفع كتفاي مندهشة وأنا أردد: «هو فيه إيه؟!! هو أنا عملت حاجه؟!!»، عندها تثور ثائرته ويلوح بيده في وجهي غاضبا: «لا أبدا ياهانم.. معملتيش أي حاجه.. إيييه اللي انتي لبساه دا؟!! هو أنت رايحه فرح.. معاد الفقرة بتاعتك إمتى؟!! البتاع دا ضيق جدا.. لونه فرايحي زيادة عن اللزوم.. قلت ستين مره ميتلبسش».

ولأنها ملابس عادية جدا ترتديها معظم السيدات في الشارع أجدني في حالة دهشة بالغة ولكنني اضطر حقنا للدماء وتوفيرا للوقت والجهد أن أضع شالا علي كتفي لأخفي معالم الجريمة فأجده يهز رأسه راضيا وهو يرمقني بتأنيب واضح: «كدا شكلك محترم وعليه القيمة».

هكذا استمرت انتقاداته لملابسي الأقل من العادية وزاد عليها بعبارات وتلميحات وتقريعات إن صادف وتحدثت لزميل لي في العمل أو اتصلت بالسوبر ماركت وزادت الطلبات فاستمر الحوار بيني وبين البائع لفترة أطول من العادي أو فتحت للبواب وأعطيته حساب الطلبات وخدمات مسح السلم وتنظيف الجراج لأجد زوجي «يرغي ويزيد وهو يرمقني بغضب لا أعرف له سببا»

وتبدأ عبارات لانهائية من نوعية: «وماله مطول معاكي كدا.. اعمليلك قفله.. هيستظرف حضرته.. تاني مره متفتحيش للبواب.. حديث الثلاثاء دا لازم يخلص؟!! قصري معاه بدل ما أقوم له».

وبهذا استمرت حياتي في شد وجذب حتى بدأ الأمر يهدأ بالتدريج ونسيت مع الوقت هذه الأمور لأستيقظ يوما علي واقع أن زوجي لم يعد يهتم نهائيا بما أرتديه من ملابس وحينما أقف أمام المرآة لأتأمل أناقتي قبل انطلاقي للعمل أجده يتثاءب ووجهه لا يغادر شاشة موبايله فإذا حاولت لفت نظره يلوح بيده بلامبالاة قائلا: «نأجل الحوار دا لبعدين.. هتتأخري على شغلك.. اوعي تكوني نسيتي تحطيلي زتون فى الساندويتشات».

أصابني الإحباط الشديد رغم أنني في البداية كنت سعيدة بغياب الحصار المسلح وما زاد الطين بله أنه لم يعد يهتم بحوار البواب وبائع السوبر ماركت وزميلي فى العمل وأصبح مع الوقت يصدرني لأي أمر من شأنه أن يشغله أو ينغص عليه حياته فأنا من يتصل بكل المصالح الحكومية ويتفق مع أي شركة صيانة أو يتداول مع الموظفين في شركات الاتصال وحجوزات المصايف وخلافه وحينما يرن جرس الباب وأخبره أنه البواب يلوح بيده قائلا: «ما تفتحيله.. خلينا نخلص وندفعله حسابه.. يعني هو هياكلك.. ياللا وحياتك أنا مش فاضي».

وبهذا زاد الإحباطات وشعرت لأول مرة من فترة طويلة أنه لم يعد يهتم بأمري.. وبينما أجلس متمللة أتصفح بريدي الإلكتروني وأراقب صفحتي على الفيسبوك وأقلب في المنشورات المختلفة اصطدمت عيناي بشخص ظننت أنني أعرفه.. ولأن اسمه كان موسيقيا في أذني تذكرته علي الفور.. زميلي في الجامعه.. انقطعت أخباره من سنوات طويلة.. وقفزت لذهني فجأة صورتي بالجامعة وأنا أتهادي وسط صديقاتي وأراقب زملاء الجامعة ينتشرون في كل مكان وقد امتلأت حياتي بعالم لا حدود له من المعارف والقصص والأحاديث والمفارقات.

تذكرت زميلي الذي كان ينتظرني بشغف خارج قاعة المحاضرات وما أن يراني حتى يبتسم بفرحة تماما وكأنه رأى هلال العيد.. كنت ألاحظ هذا وأشعر بالفخر الشديد خاصة حينما تميل علي صديقتي قائلة وهي تزغدني: «الحقي قيس واقف هناك أهو.. ياعيني الواد هتجيله ضربة شمس»، لم يكن وحده ولكن كان هناك العديد منه وتذكرت بفرحة بالغة حفلات الجامعة وكيف كنت أنظمها مع فريق كامل ومنهم زميل كان معجبا للغاية بآدائي في المشاهد التمثيلية وقدرتي الرهيبة على الإلقاء وكثيرا ما كان يبحث عن حجج ليتحدث معي كي نتباحث في فقرات الحفل وطريقة التقديم وغيرها من الأمور لتهمس صديقتي في أذني ضاحكة: «الحقي دا كمان.. ياللا يا ستي معجب جديد أهو».

لم تقف الذاكرة النشطة عند هذا الحد وتذكرت الشاب الواعد الذي كان يرتب رحلات الجامعة ويضع اسمي جبرا علي رأس القائمة وهو يتنهد مبتسما بخجل: «لازم تطلعي معانا.. الرحلة مش هيبقى ليها طعم من غيرك.. متحمليش هم أنا مرتب كل حاجه.. متخفيش ياستي هنرجع بدري.. صحبتك سوزي دفعت أول واحده ملكيش حجة بقى».

هذا غير الفتى المسكين الذي كان يسجل لي جميع المحاضرات ويعطيني دفتره مدونا به كل الملاحظات مرفقا بها أسئلة المراجعة العامة وملازم التقوية وسلاح التلميذ تماما وكأنني في المدرسة.

وكان يبدو حريصا للغاية علي مصلحتي وأنا ابتسم سعيدة لأنني وجدت أخيرا من أستغله دون أن أبذل جهدا ملحوظا أو أرهق نفسي بحضور المحاضرات المملة هذا غير الأبحاث التي كان يعكف عليها في المكتبة وأنا آخذها منه ـ على الجاهز ـ متجاهلة تماما ابتسامته الودودة وفرحته الشديدة لأنني سمحت له بأن يساعدني وأنا أردد متظاهرة بالغباء: «تعبت نفسك قوي.. هارجعلك الورق على طول.. هاصوره بس.. تحفه.. المعلومات دي مهمة جدا.. مش عارفه أقولك إيه»، ولكنه يظل مبتسما بسعادة مكتفيا بكلماتي التي أرددها بلا أي معنى.

وقبل أن استرسل في بقية الذكريات أسرعت أفتح صفحة زميلي وأنا أحدث بنفسي بفرحة وقد لمعت عيناي: «هو حاطط صورة باباه ليه.. بس باباه يشبهه قوي»، تذكرت ابتسامته المرحة وشعره الأسود الناعم وقامته الشديدة النحول ووجهه الصبياني وهو يلوح لنا من بعيد وكأنه وجد ضالته المنشودة.. أسرعت أفتش في صفحته باحثة عن صورة أخيرة ولكنني مع الوقت اصطدمت بالواقع المرير.. كانت الصورة التي يضعها صورته هو شخصيا.. بدى بـ«كرش» ممتد مرتديا بنطلونا من الطراز العتيق «بحزام وكسره» وقد طار شعره الناعم ليحتل مكانه طريقا صحراويا شاسعا غير من شكله تماما وما أذهلني أكثر هي التعليقات التي صاحبت الصورة وكانت من نوعية: «حمدالله ع السلامة ياريس.. نجم والله.. مشتاقين ياغالي.. السلام أمانه للمدام والأولاد.. أبو حازم.. منور الدنيا كلها».

ابتلعت الصدمة وبحثت من خلال قائمة الأصدقاء عن البقية الباقية من زملائي ووجدتهم كلهم «بربطة المعلم» ولم أصدق نفسي وأنا أقارن ما بين الماضي والحاضر.. فهذا يحتضن عائلته بأبوة وطيبة زائدة عن اللزوم وقد بدى علي وجهه الهم الشديد ومرارة المسؤلية وآخر يبتسم بوقار بالغ ولا شبه بينه وبين فتى الجامعة الغر إلا الاسم والمؤهل الدراسي والأخلاق الحميدة وعثرت تقريبا على دفعتنا بأكملها وأنا لا أصدق التحول الرهيب في الملامح والشكل والمضمون.

 وجدت نفسي بعد أن كنت زهرة برية سعيدة منطلقة قد ركبني الهم وزاد عمري عشرات السنوات وأنا أرى الشاب النحيل المبتسم السعيد الذي يلوح بحماسة ويصيح بانطلاق قد تحول لرجل وقور هاديء متقوقع مثقل بالهموم والواجبات متحفظ لا يرى في الحياة إلا أنها دار فناء  يضع قدمه الأولى في الدنيا والثانية في الآخرة والبقاء لله..

جلست مصدومة من كم الصور والتعليقات والسنوات التي ظهرت بوضوح في تعبيرات الوجه والأخاديد العميقة والابتسامات المنكسرة وبينما أنا على هذا الحال دخل زوجي ملوحا بيده ووضع مفاتيحه كالعادة ونظرت إليه وكأنني أراه لأول مرة فلايزال رشيقا مرتديا الجينز يضع على شعره الجيل ويرتدي ملابس عصرية.. لاحظ ذهولي وأشار بيده قائلا: «خليكي زي ما أنت أنا هاسخن الأكل.. كملي شغلك عادي».

نهضت بهمة ونشاط وأغلقت صفحتي وصفحات الآخرين وهتفت بحماسة وهو يراقبني بدهشة بالغة: «أنا موراييش حاجة.. أنت أنقذتني.. هاجهز العشا حالا.. صحيح.. إيه الشياكة دي؟!! القميص دا حلو قوي عليك.. اللون التاني كمان تحفه.. ثواني كله هيكون جاهز».

تركته مندهشا وأنا أتنهد وكأنني خرجت من عنق الزجاجة وأنا أتذكر ما مر بي من ذكريات قديمة تلاها حاضر مرير وصدمات عنيفة سبحان من يغير ولا يتغير.. ظللت أراقب زوجي من بعيد وأنا أحدث نفسي قائلة: «والله أحسن من غيره.. علي الأقل دمه خفيف ومش كوبه.. أكيد لما كان ف الجامعه كان حلو وصغير».

وبينما أحدث نفسي وجدت طلب صداقة على «الفيس بوك».. كان زميلا لي في الجامعه من هيئته الجادة ووجهه المستكين وملامحه الأبوية الفاضلة قبلت صداقته مبتسمة وأنا أحدث نفسي: «وماله ياحاج دا انت تنور الصفحة وتزيدها هيبة.. لولا اسمك ما كنتش عرفتك.. ياللا.. هلوا ورا بعضيكوا هلوا».

الكلمات الدالة