رئيس مجلس الادارة:

د. محمود مسلم

رئيس التحرير:

مصطفى عمار

رئيس مجلس الإدارة:

د. محمود مسلم

رئيس التحرير:

مصطفى عمار

علاقات و مجتمع

منال عزام تكتب: جعلوني متزوجا.. مهمة مستحيلة

كتب: منال عزام -

12:38 ص | الجمعة 19 مارس 2021

الكاتبة منال عزام

اعتدت أن أسمع من زوجي عبارات ثابتة لا تتغير: «أغبيا.. متخلفين.. مغمى عليهم.. مغيبين.. كفتجية.. كبيرهم يعملوا كرانيش سقف».

ولأن زوجي لا يعلم مدى الجهد الذي يبذله الـ «كفتجية» في عملهم والتعب الذي يحل على من يقوم بعمل «كرانيش السقف»، لذا تجده يصف الجميع بالغباء والتخاذل وانعدام النباهة بمن فيهم أنا ـ طبعا ـ وربما أكون على رأس القائمة، ولكنه لا يريد أن يصرح بهذا فيكتفي بالتلميح حينما يجز على أسنانه مخاطبا ابني وهو يرمي بطرف عينه قائلا: «ياريت محدش يفتي دلوقتي خالص.. الحكاية مش ناقصة.. كل واحد يخليه ف حاله ويحتفظ برأيه لنفسه».

ومع الوقت أدركت أن المناقشة معه شبه مستحيلة، فهي لن تؤدي لأي نتائج مرضية ـ وكأنك داخل في حارة سد أو بتنفخ ف إربة مقطوعةـ لذا ابتلعت لساني وأنا أتذكر آخر مرة أدليت فيها بدلوي ونصحته لوجه الله فما كان منه إلا أن انفجر في وجهي غاضبا: «نورتي المحكمة ياستي.. شكر الله سعيكم.. جايه تتكلمي دلوقتي.. بعد ما الفاس وقعت ف الراس.. ياريت تنقطيني بسكاتك أنا مش ناقص».

ولأنني أتذكر جيدا أنني نصحته سابقا ـ بدل المرة عشرةـ فما كان منه وقتها إلا أن نظر إلي ساخرا وهو يقول: «اطلعي منها انتي وهي تعمر.. ما تخفيش ياستي.. لما أقع ف شر أعمالي مش هاقولك الحقيني.. ياللا شوفي مصلحتك وخليني أشوف اللي ورايا».

ومن يومها وأنا أستمع إلى آرائه السديدة بصمت تام وسكوت لا يمت للرضا بصلة وهو يتحدث عن مشاكل البلاد وحلولها الجذرية والأزمات المرورية وغباء الناس والفساد والكساد والاستبداد وتكميم الأفواه وأنا لا أكاد أفتح فمي بربع كلمة وإن قررت الخروج عن صمتي الرهيب فبعبارات محسوبة من نوعية: «آه طبعا.. أكييد.. معاك حق.. ياريت.. ربنا يهدي.. إحنا وأنت يارب.. منتقم جبار.. ربنا يولي من يصلح».

كل هذا وأنا أناشد السلام الداخلي وأحقن الدماء و«أوفق راسين ف الحلال» إن لزم الأمر.. ولكن للصبر حدود.

وبينما أقف في المطبخ استعدادا لاستقبال مديره في العمل والذي يعده صديقا صدوقا له، وجدت زوجي يقف في منتصف المطبخ مهيمنا وكأنه خبير تغذية أو مفتش تموين.. ولأنني كنت في وضع لا أحسد عليه وليس لدي وقت للمهاترات احتقن وجهي غضبا ـ ربما من شدة حرارة الفرن ـ وخاصة عندما وجدته يقلب في الـ «حلل» ويرفع أغطية الأواني وينظر للطواجن والصواني بانتقاد واضح وهو يظن نفسه «الشيف شربيني» وكأن المطبخ ساحة من ساحات معاركه الكلامية اللانهائية، وقبل أن اتحدث بما لا يسره وجدته يقلب عينيه ويلوي فمه امتعاضا ويقول: «كترتي اللمون قوي في البطاطس دي.. اللحمة شكلها اتحرقت.. الفراخ ناقصة سوا.. الرز نشف واللا إيه؟!! حمري الحمام ف الفرن وبلاش وجع دماغ.. التورلي مبيتعملش كدا.. انتي لسه هتقطعي طماطم وبصل».

لم أتمالك نفسي ونسيت كل العبارات المحفوظة وتطييب الخواطر المعتادة وخرجت عن شعوري وأنا أدفعه بنظرات صارمة ليغادر المطبخ وكلماتي تلاحقه كالإعصار: «دي مش نشرة الأخبار على فكرة.. سيبتلك السياسة والاقتصاد والمفهومية سيبلي أنا بقى المطبخ.. مش عاجبك الأكل متاكلش منه... أنا مبافهمش يا سيدي ومباعرفش أطبخ.. اتفضل برة.. متعطلنيش»

خرج رغما عنه وهو يرغي ويزبد ومن نظراته المتوعدة عرفت أنه يتمنى لو احترق الأكل وفسدت العزومة بكل أصنافها ـ فقط ليثبت وجهة نظره ـ

أصابني التوتر الشديد ولكنني تحكمت بأعصابي وأنا أحدث نفسي بأنني طاهية محترفة وأنه مجرد دخيل يحاول اثبات وجهات نظره وتطبيق نزعاته النرجسية وبينما أضع الأصناف برفقة المساعدة المنزلية وأنا أحاول تهدئة أعصابي خاصة بعد أن كاد يفقدني صوابي ويهز ثقتي بنفسي..

وصل الضيف وهو يشيد بالطعام ورائحته من قبل أن يأكل وما إن خاض المعركة ووضع بصحنه من جميع الأصناف حتى بدأ يقول شعرا ونثرا وغزلا يشنف الآذان ويوقف كل من تسول له نفسه عند حده.. ابتسمت بثقة بالغة وأنا أسمعه يكرر عبارات الاطراء السخية: «مش ممكن يا مدام.. الحمام دا أنا عمري ما دقت ف حلاوته قبل كدا.. الرز تحفة يتاكل لوحده.. التورلي دا حكاااية.. البطاطس دي تدرس.. دا فن بقى.. لو عملتي برنامج طبخ هتكتسحي.. اللحمة زي الزبدة.. بجد تسلم إيدك".

انكمش زوجي وابتلع لسانه ووضع رأسه في طبقه وكان كلما أراد التعليق يهمهم بكلمات غير مفهومة وأنا لا يفوتني أن أرميه بنظره جانبية وابتسامة ساخرة دون أن أنطق كعادتي بكلمة.

مر اليوم بسلام تام ووجدت زوجي بعد عدة أيام يضع ساقا على ساق ويتحدث بثقة بالغة ـ يحسد عليها ـ وهو يقول: «الأكل دا مش قصة ف عمايله.. في أكلات كتير جدا مش محتاجة مجهود.. أنا كلت مرة ف مطعم إيطالي أكل بسيط بس معمول بمزاج عالي.. أنا لو طبختلكوا هتشوفوا الشغل.. هيه كيميا يعني».

تركته على معتقداته البوهيمية ونزعاته النرجسية وأفسحت له المجال ليثبت قدراته المطبخية وحينما دخل مطبخنا دخول الفاتحين مزودا بوصفات عجيبة يزعم أنها أصنافا إيطالية وأكلات مكسيكية وبلا بلا بلا حتى تركته يواجه مصيره وذهبت لأقصى مكان بالمنزل وأنا أسمع صوت الـ«حلل والطاسات والملاعق والأطباق والشوك» وهم يعزفون مقطوعة صاخبة لبيتهوفن وكأنها الحرب العالمية الثالثة.. حاولت تجاهل كل ما يحدث في مطبخي وأنا متوجسة خيفة أنعي حظ أولادي الذين سيأكلون من يد والدهم أصنافا لم يعرف تاريخ الطهي مثلها من قبل..

وبينما أقلم أظافري متظاهره باللامبالاة سمعت انفجارا مدويا يرج المكان ورأيت بعيني دخانا كثيفا يملأ مطبخي فشهقت فزعا واندفعت بغريزتي الفدائية لأنقذ الموقف وأنا أرى زوجي يعدو بكل ما أوتي من قوة خارجا من المطبخ ومن خلفه عاصفة من الدخان.. انعقد لساني لبرهة وأنا أتذكر توم كروز في فيلم مهمة مستحيلة وكاينو ريفز في فيلم بأقصى سرعة.. الفارق الوحيد أن زوجي لم يكن بنفس الرشاقة والوسامة ولكنه كان يعدو كبطل فيلم أجنبي وهو يحاول الفرار من مصيره المحتوم.

مر الموقف على خير واتضح بعد محاولات من الاستفهام والاستنباط أنه ـ بذكائه الخارق ـ وضع الزيت المغلي تحت صنبور الماء فحدثت تلك العاصفة الدخانية.. ونظرت بأسى بالغ لمخلفات الحرب الدامية تماما كمن يراقب خراب البلاد والعباد بعد انتهاء الحروب العالمية الكبرى.. كان الزيت المغلي «بقدرة قادر» ينتشر في كل مكان ويغطي جميع الجدران وتصورت مهمتي المستحيلة وأنا أحاول إزالة آثار العدوان وبينما أتأمل هذا الخراب بحزن وأسى بالغين سمعت زوجي يتحدث من خلفي بلا مبالاة وإن ظهرت رغما عنه نبرة الخزي والانهزامية التي حاول إخفاءها خلف جدار من الكبرياء والعنجهية: «كل حاجة كانت ماشيه أوكيه.. لولا الغلطة البسيطة اللي حصلت ف الآخر»، لم أتمالك نفسي والتفت إليه بغيظ شديد وهتفت بقوة وأنفاسي تعلو وتهبط كالسيمفونية في صدري: «غلطة إييه!! هو أنت بتغلط أبدا!! الحكاية كلها كانت غباء شديد من الحلل والمعالق والشوك وطاسة القلية.. مغيبين.. كفتجية.. كبيرهم يعملوا كرانيش سقف».